لم يجب أن نثبت دائماً إنسانية المرأة.. لم نحتاج لألف دليل ودليل لتعريف المعرف.. لم بالذات يجب أن نستحضر التاريخ القديم لنثبت امر مرتبط بالواقع الحالي, كيف نستدعي الماضي لإثبات الحاضر, وإلى متى؟ مرت علينا عقود طويلة ونحن ندور في ذات الحلقة المفرغة, وكلما برز الحديث عن المرأة يتشنج البعض ويبدأ في سرد الأحاديث والآيات والأقوال التي تثبت دونية المرأة وقصورها, بينما يستبسل البعض الآخر في تفنيد هذا الحديث وإثبات عكسه, والمحصلة إننا جميعاً وقعنا في الفخ , فخ التنابز والتصارع والاختلاف وربما وصل الشطط بالبعض إلى ابعد من هذا! وفي النهاية فإننا ما أضفنا جديد.
ربما هذا السجال الدائر يأتي بعكس ما يراد له ويولد إحباطاً ويأساً كما تلمسته من العديد من النساء اللائي آثرن التراجع والتقوقع كحيلة دفاعية ميكانيكية يستخدمها عقل الإنسان عند مراحل التأزم وتعقد الواقع المعاش. الأمر الذي يدفعهن لاتخاذ مواقف ضد مصالحهن بمحاولتهن تكريس واقع يمتهن إنسانيتهن في كل لحضة. وهذا أمر مفهوم في هذا الحال عندما يستمر طرح موضوع المرأة في مجتمعاتنا بمبدأ الدفاع عن الوجود وليس كتقرير واقع لا يقبل النقاش أو المساومة.
من لا يؤمن بدور المرأة واستقلاليتها أو إنسانيتها, يدرك تماماً إن المرأة قادرة ومؤهلة لكافة الأدوارو لكن من شأن تسليمه وإقراره بهذا وتمكينها من أدوارها المختلفةو من شأن هذا أن يحدث تغييراً بنائياً في صلب المجتمع وعلاقاته المتخشبة لقرون تحت سميات عفى عليها الزمن مثل العادات والتقاليد والعرف وغيرها من المفاهيم المجتمعية والتي ما اخترعها المجتمع وكرسها على مدى الزمن إلا لإحكام السيطرة على الإنسان في هذا المجتمع رجل أو إمرأة. لذا تمكين المرأة الآن سيهدد منظومة القيم التقليدية والمقدسة لدينا بأكثر مما هو الدين مقدس.
لنتفكر بهذه المقاربة لوضع المرأة في مجتمعاتنا العربية والخليجية على وجه الخصوص, هنا حيث استطعنا أن نخفي بدائيتنا وتخلفنا تحت قشرة الحداثة السطحية والهشة والتي يسهل تمزيقها في كل مرة تبرز فيها قضية من القضايا المتعددة لإضطهاد المرأة واستعبادها, من حوادث العنف الأسري المتعددة والمخيفة والمتزايدة, وعدم اتخاذ تدابير حقيقية لحماية المرأة ووقايتها منها, والتمييز الحادث ضدها في التوظيف و\أو عدم الاعتراف بها ككيان وهوية واستمرار تبعيتها المطلقة للذكر أي كان دوره في حياتها, إلى معاملتها كالمتهمة والتبليغ عن تحركاتها عند خروجها من حدود بلدها كما يبلغ عن المجرمين أو المشبوهين برسائل نصية تصل لذويها, على الرغم من إنها لا يمكنها أصلا مغادرة البلاد دون موافقة ولي أمرها (وإن كان طفل صغير!). مع إن هذا الوضع خاص فقط بالسعودية, ولكن هذا لا يعني إن النساء في أماكن أخرى يعشن أوضاعاً أفضل كثيراً. فالكثيرات منهن يعشن صراعات يومية من أجل إثبات الوجود والكرامة والحق في الحصول على لقمة العيش إسوة بالرجال.
لازال مصير المرأة معلق بالرجل مهما بلغت مكانتها العلمية والعملية ومهما كان عطائها ومهما قل شأن هذا الرجل علما وعملاً, وتُستغل في هذا أبشع استغلال وبأسم الدين في كل الأحوال. وليس لدينا قوانين متطورة توفر الحماية للمرأة والطفل كما تقرره الشرائع والدساتير والقوانين والمعاهدات الدولية, ومعظم هذه الأخيرة وقعت عليها دول الخليج, وإن تحفظت على بعض بنودها, وهي معاهدات مُلزمة, تراقب المنظمات العالمية أداء الحكومات الخليجية ومجتمعاتها المدنية فيما يتعلق بمسائل تعديل القوانين والتطبيق وتجري مراجعات سنوية أو مرحلية لها وتُصنف دولنا بناء على هذه المراجعات, ولهذا فإن تصنيفاتنا في معظم الأحوال تكون متدنية ونكون دائماً في صدر المواجهة مع هذه المنظمات, والتي نداري عجزنا عن الرد عليها وعلى خروقاتنا الفجة لأبسط حقوق الإنسان فيما يتعلق بالمرأة على وجه الخصوص, باتهامنا لهذه المنظمات بالعمالة والتآمر على خصوصياتنا, هذه الخصوصيات التي لا تزيد عن أوهام تعشش في رؤوس من يصرون على تكريس مفاهيمهم المتخلفة.
إننا نحيا في القرن الواحد والعشرين أي فترات ما بعد الحداثة وعولمة حقوق الإنسان وتناقص درجة التحمل للاستغلال والاضطهاد واتساع مفاهيم الحرية. كما إننا وبفضل العلم والانفتاح أصبحنا نملك طاقات بشرية نسائية ورجالية قادرة على التصدي لهذا التيار الفكري المُكرس للجمود. ولا يصح لهذا أن نُقصر حديثنا في مجال المطالبة بالحريات الأساس للجميع وبالذات للنساء أن نذكر هذا بمواربة واستحياء ولا أن صوت الماضي للتدليل على مشروعية مطالب الحاضر, فالماضي وإن كانت به أمور حسنة ولكنها الاتبطت بمكان وزمان وأُناس لا يصلُح في مُعظم الوقت القياس عليهم. فهو زمان مضى بما حوى وهذا زمان آخر يزخر بالخبرات والمقاربات والنماذج التي يجب أن تُدرس بتمعن وموضوعية وهي كافية لاستلهامنا للنماذج التي نريد تبنيها. كما إننا يجب أن نكف عن الدفاع عن مشروعية مطالبة المرأة لحقوقها وتبريرها, فالحقوق لا تبرر ولا تمنح ولا يطلب من أحد أن يمنحها أو يتفضل بها ولكنها تتطلب إيماناً عميقاً بها وشجاعة في المطالبة بها والتسلح بكل المعارف والإمكانات التي تساعد للوصول لها.
ولعل أهم الإمكانات في هذا المجال اليوم هو الانظمام إلى التجمعات المدنية والمنظمات والمؤسسات المحلية والعالمية, وهذا اتجاه عالمي ينحى له كل أصحاب المطالب, ليس لعمالة أو خيانة كما تبررها مجتمعاتنا العاجزة, ولكن لأن المطالب واحدة والمعاناة كذلك, ولم تعد المطالبات الفردية مهما كانت أحقيتها ذات جدوى ما لم تتحد جهود كل الناس حولها, هذه إحدى أبرز ثمار العولمة الإيجابية التي ربطت المصالح والهموم للبشر ويسرت سبل الالتقاء حولها. لهذا فأخشى ما تخشاه مجتمعاتنا المُغرقة في الانعزال والتقوقع هذا الانفتاح على المنظمات العالمية, ومنعها أوعرقلتها لتشيكل المنظمات والمؤسسات المحلية. ففكرة تجمع أصحاب المصالح في تنظيمات تخيف لأنها تنفي الفردية وتسلط ضؤ ساطع على نقص أو ضياع الحقوق وتجلب المسائلة الجادة للأنظمة حولها.
إن الاستمرار بالجهود الفردية للمثقفين والكتاب والمهمومين بشؤن المرأة وحقوق الإنسان يكون مجدي على المدى القصير للفت النظر وتحفيز الجهود والدفع لتجميعها في مسارات محددة للالتقاء ووضع التصورات لعمل مستدام ذا رؤى واستراتيجيات, لكن استمراره بهذا الشكل الغير منظم سيأتي برد فعل عكسي وضار, حيث إنه من جهة سيسبب إحباط لدى من هو متضرر من أفراد المجتمع ولا يجد لكل ما يكتب أو يُشار إليه صدى على مستوى السياسات العامة للدولة, وهذا له تأثير خطير من حيث إنه يزيد من أعداد اللامباليين والمتقاعسين وربما قد ينظموا للمحاربين ضد من يطالب بالحقوق. ثم إنه من الجهة الأخرى يُسهل عملية التجاهل من قبل الدولة لهؤلاء وعدم أخذهم بالجدية المطلوبة وربما عزلهم وإقصاءهم كما هو حادث الآن والأمثلة أكثر من أن تٌعد.
لذا فإننا إذا كنا كمثقفين منحازين تجاة ثقافة حقوق الإنسان أو المرأة أو الطفل أو أي من الفئات المجتمعية المهمشة والتي تحتاج الدعم الحقيقي لمطالبها وعلى المدى الطويل, لا يفيدنا تبنيها بشكل هامشي أو كهواية نلجأ للكتابة حولها كلما شحت منا مواضيع أخرى, ولا أن نكتب عنها باستجداء ومواربة. كل هذه استراتيجيات اثبتت فشلها لعقود وسببت الكثير من الضرر لمن ادعينا الكتابة لهم وتبني قضاياهم.
إن القرن الواحد والعشرين هو قرن حقوق الإنسان في كل مكان وزمان, حق أساس لكل مواطن على هذا الكوكب لا يعنيه أين وضعته صدفة ولادته في السعودية أو أمريكا, والمواطنين بهاتين الدولتين لهم معاناتهم, ولكنهم يديرونها بطرق مختلفة وهذا ما جعل فرص جصولهم على القليل أو الكثير من هذه الحقوق رهن بهذة الطرق المختلفة.
وحتى نقرر في هذا الجزء من العالم الكيفية التي نريد بها الحصول على حقوقنا والتي بها سنحدد إمكانات حصولنا عليها من عدمه والتفاف أصحاب هذه الحقوق حولنا من عدمه. فإنه حتماً لن يفيدنا استحضار أمثلة من وراء قرون من الزمن حول إمرأة أو طفل أو اي بشر نقاربه بمن أو ما لدينا الآن. وألا فالفرصة المخيفة قائمة لأن تربح القرون الماضية ونخسر نحن.
هدى آل محمود
رئيسة جمعية الاجتماعيين البحرينية