دائما يبحث الجاد عن مدلول التاريخ ومعطياته وبراهينه .. ودائما أيضا ما - يتجاهل الجاهل ما يدل عليه التاريخ . أفتخر أنى مصرى ليس لأن جدودى فراعنة أو عبيد أو مماليك أو سلاطين أو حرافيش أو ... إلخ . بل أفتخر لأنى تحملت الكثير حتى أن الظروف لا أكاد أميز سيئها من أحسنها . أفتخر لأنى لا أميل إلى وطن ولا أرمى بجسدى فوقه .. لا أعشق من يكرهنى ولا يسترنى ولا يسامحنى ولا يحملنى .. أعرف أن الوطن فى الإستقرار وأن الحرية جزءا منه لا يتجزء بل إن هناك بينهما علاقة طردية وإيجابية . قرأت فى تاريخ بلادى ولاحظت أنه مكتوب من تيار واحد يفتخر بالتاريخ ويحول السيئ للأفضل .. لم أرى كتابا ينتقد التاريخ بل عادة ما ينتقد الأشخاص دون وقوف على الحالة والظروف .. ليس من المنطقى أن يكتب التاريخ بتوجه واحد ومن فرقة واحدة تتبع السلطان ومؤسسات الدولة التى تعنى رضا الحاكم ومواجهة عدو وهمى تخلقة الظروف والدواعى الأمنية .
فكما أن هناك فرق بين حكم مدنى وحكم عسكرى ... هناك أيضا فرق حاكم أجنبى وحاكم وطنى . ورغم أن دلالات التاريخ المصرى تثبت أن الحكام قبل استقلال مصر ساهموا فى بناء حضارة مصر وتاريخها إلى الان وهو ملموس ومحسوس وكثير ما نعتمد على غالبيته فى حياتنا اليومية من بنى تحتية وانتاج متنوع - وفى المقابل نجد الحاكم الوطنى ومعظمهم ذوى خلفية عسكرية تركو لنا ميراثا نعانى منه حتى الان وما أعطوه لبلادهم كان من الطبيعى مقارنة بتطور الدول الأخرى مع مرور الوقت . فمن التخلف أن نشكر ونمدح حاكم قام برصف الطرق وانشاء الكبارى وتوصيل المياه للمواطنين لأن هذه الأشياء لازمه وتأتى مع مرور الزمان وأغلبها كان بمساعدات ومنح أجنبيه نظرا كما تعودنا لظروف البلاد الإقتصادية والأمنية ومحاربتها الإرهاب .. إلخ .
الحاكم العسكرى يختلف عن الحاكم المدنى فى مواجهة الأزمات ومناقشتها إن لم يكونوا هم طرفا فيها . فالتقشف وترشيد الإستهلاك وقلة الإنجاب هم الركيزة الأساسية لحل الأزمات الإقتصادية فى فكر العسكر وما يتبعهم من حكومات . والمواجهة الامنية لشتى صور التعبير والحرية وممارسة الديموقراطية بحجة الحفاظ على إستقرار البلاد رغم عدم تحقيق الإستقرار . ودائما ما يستخدمون مصطلح (محاربة الإرهاب ) عند ظهور إحتجاجات بشتى أنواعها والتى عادة ما تكون موجة غضب ناتجه بطبيعة الحال من الفقر والحاجة .. فبدلا من إعلان محاربة الفقر وتحقيق الرخاء والإستقرار يعلن أنه سيوجه كافة موارد الدولة لمحاربة الإرهاب .
الإرهاب - موجود فى كافة الدول التى تحكم بالعقلية الأمنية والتى يوجد فيها الفقر كميراث الأجداد ويعمل الحاكم على المحافظة عليه بل وزيادة رقعة الفقر والفقراء ظنا منه لإستقرار الحكم .. الإرهاب نائم فى بعض الدول ولكنه موجود وحتما يستيقظ إن تداعت الأمور وسمحت الظروف . فكثرة الظلم وغلق قنوات الإتصال والمصالحة وحل المشكلات وتطبيق القانون والعدالة وعدم مواجهة الإحتجاج مهما كانت اسبابه ودواعيه واللامبالاة أمام الدم والقتل ... حتما تتساوى الحياة والموت ولا مكان حينها للدين وحب الوطن .. فقط يكثر الإرهاب والذى ولد من رحم الظروف .
لذا وعندما فرح المصريون بأول إنتخابات رئاسيه مع إختلاف معظمهم حول شخصية المنتخب وإعتراض الكثير عليه .. ولكنها حتما كانت تجربة تسمح بإعمال العلم والثقافة محل الجهل والقمع وعدم تفسير الواقع بالمنطق . واجه الرئيس المنتخب دولتان داخل دولة واحده : دولة عميقة تحن للماضى وتعمل لرد جزءا من الجميل والمعروف ولرؤية ظالمة للواقع وغير محايدة ولا تحمل الخير ودولة موازية نتجت من فهم الحريات بالخطأ ومن سيطرة فكر على فكر ورأى على الاخر وعدم وجود حوار بناء فكلا الأطراف يعتقد فى نفسه الحق أنه فقط يعرف مصلحة بلاده وماعداه يمثل خطرا عليه وعلى بلاده التى يتغنى بها ولا يدرى عنها سوى ما جاءه من كتب التاريخ والتى سبق التنويه عنها .
الان فى مصر لا إعمال للمنطق والعقل فى أى شئ ... هناك صورة ذهنية رسخت فى عقول الكثير وصارو يتحركون ويتكلمون ويفعلون ويقتنعون بتأثيرها أظن أنه لو خرج السيسى معلنا أمام الجميع أنه إستغل حاجتهم وتطلعهم للتغيير وحل كافة الأزمات وأنه قام بإنقلاب من أجل السيطرة على الحكم ... لن يصدقوه وسيقولون ( السيسى معمول له عمل من الإخوان ) . رغم إختلافى مع فكر الإخوان فى إدارة شئون البلاد إلا أنهم إستطاعو كتابة دستور لا يرمى لهم بفائدة خاصة بل هو جرد كافة المؤسسات رقم واحد كل صلاحيتها الإلهيه . دستور أراد بمصر أن تكون دولة وليست عزبة أو ملكا خاصا يتوارثه القادة .
كان من المنطقى ومن الطبيعى فشل اول رئيس منتخب يحكم مصر كدولة شكى الكثير من ولاة الأمر عليها منذ الحكم الإسلامى وما قبله ولكثرة المخططات والمكايد فشل بل سجن ويحاكم الان بتهم هى بالأحرى تناسب حال العدالة والقضاء وما آل إليه الحال فى كافة المؤسسات والتى بنيت بفكرة عسكرية عائلية.. وصارت مصر ولا تزال تحكم بحكم العائلات والحفاظ على تواجدها فى كافة مراكز صنع القرار بالقضاء والجيش والشرطة والإعلام وحتى المعارضة .
ولأن كثرة الأمراء سوء ويكفى سيدا واحدا أو ملك واحد كما خاطب أوليس القوم فى هوميروس - عاد العسكر وأنه لم ولن يرحل حفاظا على العائلات وملكها ومناصبها ونفوذها .. وعاد بفكرة جهنمية وهو أنك إذا أردت أن تسيطر على عقول الشعب وترغمهم على حبك وعشقك وطلبك واللجوء إليك أشغلهم بالبحث عن سببا للأزمات وأدخلهم فى مهاترات ومناقشات وجدال لا ينتهى .. ثم اخرج عليهم فى لحظة معينة معلنا أنك توصلت إلى الجناة ومن هم وراء الأزمات .. فالإخوان هم الطرف الثالث وهم الأصابع الخفية وهم سببا فى كل الأزمات وإنهيار الوطن ونقص الخدمات والقتال ...