معلقة شعرية بدأت خطبة مرتجلة وصاحبها يختار طريقة قتله!

فريق التحرير أن تدخل #قصيدة لتكون واحدة من #المعلقات_الشعرية الشهيرة التي تعتبر عيون #الشعر_العربي، ليس بالأمر الهيّن على النقاد والمصنفين ومؤلفي التراجم، خصوصاً إذا كانت تلك القصيدة عرضة لسهام التشكيك بقيمتها الأدبية ومستواها الفني.
وتبرز في هذا المجال قصيدة الشاعر الجاهلي #عبيد_بن_الأبرص، والتي تبدأ بـ"أقفر من أهله ملحوبُ". حيث طعن عليها بعض نقاد الأدب، فيما اعتبرها آخرون من أجود الشعر، وتساءل آخرون عن كيفية دخول قصيدته في المعلقات.
صورة عبيد بن الأبرص مشوّشة، في الكتب التي تناولت سيرته وشعره، خصوصاً أن المبالغات طبعت جزءاً من حياته، ومنها أنه قُتِل وعمره ثلاث مئة سنة، فضلاً عن أن قاتله نفسه يتخذ أكثر من اسم. ويرد في "الشعر والشعراء" لابن قتيبة الدينوري، والمتوفى سنة 276هـ، أن قاتل عبيد هو النعمان بن المنذر، فيما قاتله هو المنذر بن ماء السماء.
ولا يمتنع الدينوري من نقل ما قيل عن عمر عبيد لمّا قتل، فيذكر أنه لقي قاتله وله أكثر من ثلاث مئة سنة. ويعتبر أن قصيدته "أقفر من أهله ملحوبُ" هي "من أجود شعره". بل إنه يضعها بين "السبع" أي بين المعلقات السبع، وهي معلومة أضافت تشويشاً جديداً على عبيد، كونه ليس من شعراء المعلقات السبع، أصلاً.
موقف ناقد له شأنه في عالم النقد الأدبي، كابن سلام الجمحي (139-231هـ) من عبيد، يزيد في تشويش صورة عبيد الشاعر، أو عبيد الإنسان العادي. فهو يضعه في شعراء "الطبقة الرابعة" إلى جانب طرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، وعدي بن زيد. وهي مكانة يحلم بها أي شاعر يكون إلى جانب طرفة بن العبد، في طبقة واحدة. إلا أنه وبعد أن يضعه في طبقة طرفة، يطعن عليه: "عبيد بن الأبرص قديم، عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشِعره مضطربٌ ذاهب، لا أعرف له إلا قوله: أقفر من أهله ملحوب!".
شاعر ضائع الشعر!
ووقف كثير من النقاد عند تأكيد الجمحي أنه لا يعرف لعبيد إلا "أقفر من أهله ملحوب". وهو ناقدٌ مصنفٌ جامع. ورجِّح أن يكون السبب وراء عدم معرفة الجمحي بشعر عبيد، هو أن شعره لم يكن قد جُمِع بعد. إلا أن قولة الجمحي إنه لا يعرف سواها، ساهمت بزيادة التشويش على صورة عبيد، بل استخدمت للطعن بعموم شعره، بل وبحقيقته التاريخية أحياناً. بل إن جملة الجمحي ذاتها، والتي اعتبر فيها أن شعر عبيد "مضطرب ذاهب" أضفت مزيداً من التعقيد على ترجمة الشاعر. فكيف يقول الجمحي إن شعر عبيد مضطرب ذاهب، وفي الوقت ذاته، يقول إنه لا يعرف إلا قصيدة واحدة له، وهي "أقفر من أهله ملحوب"؟
صاحب "الأغاني" ينقل، بتجرد أكثر، ما قيل عن عبيد. إذ ينقل أبو الفرج الأصفهاني، والمتوفى سنة 356هـ، أن أشعر الناس في الجاهلية "امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص". وعندما يعود الكلام للأصفهاني نفسه يقول عن عبيد: "شاعر فحل فصيح". وبالنقل: "شاعرٌ ضائع الشِّعر".
لم يخطئ الخطيب التبريزي، يحيى بن علي بن محمد بن الحسن (421-502هـ) عندما أدخل قصيدة عبيد "أقفر من أهله ملحوب" في كتابه "شرح القصائد العشر". إذ وضعها إلى جانب المعلقات السبع، وأضاف عليها ثلاث قصائد، للنابغة الذبياني، والأعشى ميمون بن قيس، وقصيدة عبيد بن الأبرص المشار إليها. فيما قام القرشي، محمد بن أبي الخطاب (مختلف على وفاته من 170 إلى بدايات القرن الرابع للهجرة!) في "جمهرة أشعار العرب" بإدراج قصيدة عبيد في المجمهرات.
خطبة ارتجلها فصارت معلقة شعرية!
تمتاز قصيدة عبيد بن الأبرص، والمفتتحة بـ"أقفر من أهله ملحوب" بأنها من النصوص الأدبية العربية القديمة التي لم تخضع لعمليات تغيير في تركيبها العروضي، على الأقل، فتركت كما هي، وبكل ما شابها من عيوب في الوزن وتغير في البحر الشعري، والتي قد تكون حدثت بسبب عمليات النقل الحفظي. الأمر الذي دفع بأحد نقاد الأدب الكبار، وهو الحسن بن رشيق القيرواني (المتوفى ما بين 456-463هـ) في مؤلفه الشهير "العمدة في صناعة الشعر ونقده" للطعن على القصيدة أشد الطعن.
فإضافة إلى قولة الجمحي عن عبيد بأن شعره "مضطرب ذاهب" ورغم ذلك وضعه في شعراء الطبقة الرابعة!، فها هو القيرواني، يضع "أقفر من أهله ملحوب" نموذجاً لعيوب في الشعر، بقوله: "ومنه قبيحٌ مردود لا تقبِل النفسُ عليه، كقبح الخلق واختلاف الأعضاء في الناس، وسوء التركيب، مثاله قصيدة عبيد المشهورة: أقفر من أهله ملحوبُ".
ويشرح القيرواني سبب هذا الطعن على القصيدة: "فإنها كادت تكون كلاماً غير موزون بعلّة ولا غيرها، حتى قال بعض الناس: إنها خطبةٌ ارتجلها (عبيد) فاتزن له أكثرها!".
ويظهر من كلام القيرواني، أن قول الشيء ونقيضه، بخصوص عبيد، طبعت حياة هذا الشاعر الذي وضعه الجمحي بالطبقة الرابعة، ثم قال إن شعره مضطرب ذاهب! وكذلك فعل القيرواني الذي عاب على القصيدة كونها كلاماً غير موزون، بحسب كلامه، ثم ينقل أن القصيدة خطبة ارتجلها عبيد "فاتّزن" له أكثرها! أي أنه ناقض نفسه بنفسه، حينما أخرجها من الوزن، تارة، ثم أدخلها إليه، تارة أخرى.
ولم يتوقف تناقض القيرواني، عند استعماله معيارين متناقضين، في الوقت نفسه، بالحكم على قصيدة عبيد، بل يقول في موضع آخر من "العمدة" إن "أعظم ارتجالٍ وقع (هو، أو حدَث في) قصيدة الحارث بن حلزة، فإنه يقال أتى بها كالخطبة، وكذلك قصيدة عبيد بن الأبرص!".
حتى إنه عندما مدح أبا نواس الشاعر، فقد خصّه بميزة "الارتجال" التي سبق وعاب عبيد عليها. فلم يعد يعرف القارئ هل الارتجال الشعري عيبٌ أم ميزة، عند القيرواني؟: "وكان أبو نواس قوي البديهة والارتجال". بل ينقل أن شاعراً كبيرا آخر هو أبو العتاهية: "كان أقدر الناس على ارتجال وبديهة!".
خطبة بكلام غير موزون صاحبها من شيوخ الصناعة!
وزيادة في الغموض في تقييم عبيد، فقد وردت عبارة في "العمدة" تنسف كل ما قاله القيرواني عنه، على الرغم من أن نسخاً أخرى لكتاب القيرواني، ترسم جملة أخرى مناقضة لها تماما. ففي "العمدة" ترد هذه الجملة: "وأين هؤلاء من عبيد بن الأبرص، وهو شيخ من شيوخ الصناعة، ومقدم في السن على الجماعة!". إلا أن نسخاً أخرى تكتبها في شكل مناقض تماماً: "وأين من هؤلاء عبيد"، وبذلك تعني الأخيرة تقليلا من شأنه، على النقيض من الأولى التي جعلته شيخاً من شيوخ الصناعة.
ويستمر اضطراب القيرواني بخصوص عبيد، فيمتدحه على بيت شعري اختلف عليه النقاد والمصنفون. وهو هذا: "الخير يبقى وإن طال الزمان به والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد". فقد جاء في "الأغاني" أن هذا البيت ورد في حادثة، شكك فيها الأصفهاني نفسه. وبالمحصلة فإن هذا البيت قاله أحدهم لعبيد، في يوم قام فيه الأخير بتقديم الماء له، فجاءه ليلاً وشكره وذكره بنفسه بأنه من سقاه. ولما سأله لبيد من أنت؟ فيجيبه الآخر شعراً، منه هذا البيت الذي امتدحه القيرواني وعدّه من شعر عبيد، وهو ليس له.
ارتجال عبيد حيّر أغلب من تطرق إلى شعره، فمن اضطراب الجمحي، إلى طعن القيرواني، إلى انتقاد المرزباني، وهو محمد بن عمران بن موسى، والمتوفى سنة 384هـ. فقد ذكر الأخير في كتابه الشهير "الموشح" أن من عيوب "الشعر الرمل، والرمل عند العرب، كل شعر ليس بمؤلف البناء. وقد ذكر الأخفش (أن ذلك مثل) قوله: أقفر من أهله ملحوبُ".
الشعرُ كان جَمَلاً وأخذ عبيد فخذه!
ويتابع المرزباني انتقاده: "مثل قصيدة عبيد بن الأبرص، وفيها أبيات قد خرجت عن العروض". لكنه، كالقيرواني والجمحي، يستكمل التناقض الذي أوقع عبيد جميع النقاد فيه، بسبب قريحته الشعرية وقوة ارتجاله، فينقل عن الفرزدق قوله: "إن الشعر كان جَمَلاً عظيماً، فأخذ امرؤ القيس رأسه، وعمرو بن كلثوم سنامه، وعبيد بن الأبرص فخذه".
أي أن الأبرص المطعون عليه أشد الطعن لارتجاله خطبة-قصيدة "كادت تكون كلاماً غير موزون" ثم تسللت إلى المعلقات والمجمهرات، قاسمَ أعظم شعراء العرب ثالث حصة من أعظم الشعر، وبشهادة أحد أكبر شعراء العربية، الفرزدق.
يرتجل شعره ويرتجل طريقة قتله التي اختارها بنفسه
وقدر عبيد في التقييم الشعري، واضطراب النقاد من حوله، لا يكاد يختلف عن قدره الشخصي في الواقع. فقد قتله المنذر بن ماء السماء، عندما صادفه "في يوم بؤسه" وهو يوم من اثنين جعلهما بن ماء السماء كل سنة، يوم نعيم يأمر لمن يراه فيه، بمئة من إبل الملوك، ويوم بؤس، يأمر لمن يراه فيه، أن يقتل.
وهذا ما حصل مع عبيد الذي لقي المنذر بن ماء السماء، في يوم البؤس المشؤوم هذا، فأمر بقتله بعدما خيّره بطريقة القتل، وطرح عليه عدة طرق لذلك، فاختار أن يسقيه خمراً حتى يذهب عقله فيفعل به ما يشاء، فسقاه الخمر ثم قتله.
وقصة قتله طويلة، ذكر فيها أيضا، بمفارقة تؤكد طبيعة الغموض والمفاجآت في سيرة هذا الشاعر، أن المنذر بن ماء السماء طلب منه أن ينشده قصيدته التي شغلت النقاد والمصنفين ويبدو أنها، أيضاً، كانت شغلت ملكاً مشهوراً كالمنذر، وهي القصيدة التي أوقعت أغلب من تناولها، بتناقض أو اضطراب، وهي التي أولها: "أقفر من أهله ملحوبُ..".
وتبرز في هذا المجال قصيدة الشاعر الجاهلي #عبيد_بن_الأبرص، والتي تبدأ بـ"أقفر من أهله ملحوبُ". حيث طعن عليها بعض نقاد الأدب، فيما اعتبرها آخرون من أجود الشعر، وتساءل آخرون عن كيفية دخول قصيدته في المعلقات.
صورة عبيد بن الأبرص مشوّشة، في الكتب التي تناولت سيرته وشعره، خصوصاً أن المبالغات طبعت جزءاً من حياته، ومنها أنه قُتِل وعمره ثلاث مئة سنة، فضلاً عن أن قاتله نفسه يتخذ أكثر من اسم. ويرد في "الشعر والشعراء" لابن قتيبة الدينوري، والمتوفى سنة 276هـ، أن قاتل عبيد هو النعمان بن المنذر، فيما قاتله هو المنذر بن ماء السماء.
ولا يمتنع الدينوري من نقل ما قيل عن عمر عبيد لمّا قتل، فيذكر أنه لقي قاتله وله أكثر من ثلاث مئة سنة. ويعتبر أن قصيدته "أقفر من أهله ملحوبُ" هي "من أجود شعره". بل إنه يضعها بين "السبع" أي بين المعلقات السبع، وهي معلومة أضافت تشويشاً جديداً على عبيد، كونه ليس من شعراء المعلقات السبع، أصلاً.
موقف ناقد له شأنه في عالم النقد الأدبي، كابن سلام الجمحي (139-231هـ) من عبيد، يزيد في تشويش صورة عبيد الشاعر، أو عبيد الإنسان العادي. فهو يضعه في شعراء "الطبقة الرابعة" إلى جانب طرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، وعدي بن زيد. وهي مكانة يحلم بها أي شاعر يكون إلى جانب طرفة بن العبد، في طبقة واحدة. إلا أنه وبعد أن يضعه في طبقة طرفة، يطعن عليه: "عبيد بن الأبرص قديم، عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشِعره مضطربٌ ذاهب، لا أعرف له إلا قوله: أقفر من أهله ملحوب!".
شاعر ضائع الشعر!
ووقف كثير من النقاد عند تأكيد الجمحي أنه لا يعرف لعبيد إلا "أقفر من أهله ملحوب". وهو ناقدٌ مصنفٌ جامع. ورجِّح أن يكون السبب وراء عدم معرفة الجمحي بشعر عبيد، هو أن شعره لم يكن قد جُمِع بعد. إلا أن قولة الجمحي إنه لا يعرف سواها، ساهمت بزيادة التشويش على صورة عبيد، بل استخدمت للطعن بعموم شعره، بل وبحقيقته التاريخية أحياناً. بل إن جملة الجمحي ذاتها، والتي اعتبر فيها أن شعر عبيد "مضطرب ذاهب" أضفت مزيداً من التعقيد على ترجمة الشاعر. فكيف يقول الجمحي إن شعر عبيد مضطرب ذاهب، وفي الوقت ذاته، يقول إنه لا يعرف إلا قصيدة واحدة له، وهي "أقفر من أهله ملحوب"؟
صاحب "الأغاني" ينقل، بتجرد أكثر، ما قيل عن عبيد. إذ ينقل أبو الفرج الأصفهاني، والمتوفى سنة 356هـ، أن أشعر الناس في الجاهلية "امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص". وعندما يعود الكلام للأصفهاني نفسه يقول عن عبيد: "شاعر فحل فصيح". وبالنقل: "شاعرٌ ضائع الشِّعر".
لم يخطئ الخطيب التبريزي، يحيى بن علي بن محمد بن الحسن (421-502هـ) عندما أدخل قصيدة عبيد "أقفر من أهله ملحوب" في كتابه "شرح القصائد العشر". إذ وضعها إلى جانب المعلقات السبع، وأضاف عليها ثلاث قصائد، للنابغة الذبياني، والأعشى ميمون بن قيس، وقصيدة عبيد بن الأبرص المشار إليها. فيما قام القرشي، محمد بن أبي الخطاب (مختلف على وفاته من 170 إلى بدايات القرن الرابع للهجرة!) في "جمهرة أشعار العرب" بإدراج قصيدة عبيد في المجمهرات.
خطبة ارتجلها فصارت معلقة شعرية!
تمتاز قصيدة عبيد بن الأبرص، والمفتتحة بـ"أقفر من أهله ملحوب" بأنها من النصوص الأدبية العربية القديمة التي لم تخضع لعمليات تغيير في تركيبها العروضي، على الأقل، فتركت كما هي، وبكل ما شابها من عيوب في الوزن وتغير في البحر الشعري، والتي قد تكون حدثت بسبب عمليات النقل الحفظي. الأمر الذي دفع بأحد نقاد الأدب الكبار، وهو الحسن بن رشيق القيرواني (المتوفى ما بين 456-463هـ) في مؤلفه الشهير "العمدة في صناعة الشعر ونقده" للطعن على القصيدة أشد الطعن.
فإضافة إلى قولة الجمحي عن عبيد بأن شعره "مضطرب ذاهب" ورغم ذلك وضعه في شعراء الطبقة الرابعة!، فها هو القيرواني، يضع "أقفر من أهله ملحوب" نموذجاً لعيوب في الشعر، بقوله: "ومنه قبيحٌ مردود لا تقبِل النفسُ عليه، كقبح الخلق واختلاف الأعضاء في الناس، وسوء التركيب، مثاله قصيدة عبيد المشهورة: أقفر من أهله ملحوبُ".
ويشرح القيرواني سبب هذا الطعن على القصيدة: "فإنها كادت تكون كلاماً غير موزون بعلّة ولا غيرها، حتى قال بعض الناس: إنها خطبةٌ ارتجلها (عبيد) فاتزن له أكثرها!".
ويظهر من كلام القيرواني، أن قول الشيء ونقيضه، بخصوص عبيد، طبعت حياة هذا الشاعر الذي وضعه الجمحي بالطبقة الرابعة، ثم قال إن شعره مضطرب ذاهب! وكذلك فعل القيرواني الذي عاب على القصيدة كونها كلاماً غير موزون، بحسب كلامه، ثم ينقل أن القصيدة خطبة ارتجلها عبيد "فاتّزن" له أكثرها! أي أنه ناقض نفسه بنفسه، حينما أخرجها من الوزن، تارة، ثم أدخلها إليه، تارة أخرى.
ولم يتوقف تناقض القيرواني، عند استعماله معيارين متناقضين، في الوقت نفسه، بالحكم على قصيدة عبيد، بل يقول في موضع آخر من "العمدة" إن "أعظم ارتجالٍ وقع (هو، أو حدَث في) قصيدة الحارث بن حلزة، فإنه يقال أتى بها كالخطبة، وكذلك قصيدة عبيد بن الأبرص!".
حتى إنه عندما مدح أبا نواس الشاعر، فقد خصّه بميزة "الارتجال" التي سبق وعاب عبيد عليها. فلم يعد يعرف القارئ هل الارتجال الشعري عيبٌ أم ميزة، عند القيرواني؟: "وكان أبو نواس قوي البديهة والارتجال". بل ينقل أن شاعراً كبيرا آخر هو أبو العتاهية: "كان أقدر الناس على ارتجال وبديهة!".
خطبة بكلام غير موزون صاحبها من شيوخ الصناعة!
وزيادة في الغموض في تقييم عبيد، فقد وردت عبارة في "العمدة" تنسف كل ما قاله القيرواني عنه، على الرغم من أن نسخاً أخرى لكتاب القيرواني، ترسم جملة أخرى مناقضة لها تماما. ففي "العمدة" ترد هذه الجملة: "وأين هؤلاء من عبيد بن الأبرص، وهو شيخ من شيوخ الصناعة، ومقدم في السن على الجماعة!". إلا أن نسخاً أخرى تكتبها في شكل مناقض تماماً: "وأين من هؤلاء عبيد"، وبذلك تعني الأخيرة تقليلا من شأنه، على النقيض من الأولى التي جعلته شيخاً من شيوخ الصناعة.
ويستمر اضطراب القيرواني بخصوص عبيد، فيمتدحه على بيت شعري اختلف عليه النقاد والمصنفون. وهو هذا: "الخير يبقى وإن طال الزمان به والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد". فقد جاء في "الأغاني" أن هذا البيت ورد في حادثة، شكك فيها الأصفهاني نفسه. وبالمحصلة فإن هذا البيت قاله أحدهم لعبيد، في يوم قام فيه الأخير بتقديم الماء له، فجاءه ليلاً وشكره وذكره بنفسه بأنه من سقاه. ولما سأله لبيد من أنت؟ فيجيبه الآخر شعراً، منه هذا البيت الذي امتدحه القيرواني وعدّه من شعر عبيد، وهو ليس له.
ارتجال عبيد حيّر أغلب من تطرق إلى شعره، فمن اضطراب الجمحي، إلى طعن القيرواني، إلى انتقاد المرزباني، وهو محمد بن عمران بن موسى، والمتوفى سنة 384هـ. فقد ذكر الأخير في كتابه الشهير "الموشح" أن من عيوب "الشعر الرمل، والرمل عند العرب، كل شعر ليس بمؤلف البناء. وقد ذكر الأخفش (أن ذلك مثل) قوله: أقفر من أهله ملحوبُ".
الشعرُ كان جَمَلاً وأخذ عبيد فخذه!
ويتابع المرزباني انتقاده: "مثل قصيدة عبيد بن الأبرص، وفيها أبيات قد خرجت عن العروض". لكنه، كالقيرواني والجمحي، يستكمل التناقض الذي أوقع عبيد جميع النقاد فيه، بسبب قريحته الشعرية وقوة ارتجاله، فينقل عن الفرزدق قوله: "إن الشعر كان جَمَلاً عظيماً، فأخذ امرؤ القيس رأسه، وعمرو بن كلثوم سنامه، وعبيد بن الأبرص فخذه".
أي أن الأبرص المطعون عليه أشد الطعن لارتجاله خطبة-قصيدة "كادت تكون كلاماً غير موزون" ثم تسللت إلى المعلقات والمجمهرات، قاسمَ أعظم شعراء العرب ثالث حصة من أعظم الشعر، وبشهادة أحد أكبر شعراء العربية، الفرزدق.
يرتجل شعره ويرتجل طريقة قتله التي اختارها بنفسه
وقدر عبيد في التقييم الشعري، واضطراب النقاد من حوله، لا يكاد يختلف عن قدره الشخصي في الواقع. فقد قتله المنذر بن ماء السماء، عندما صادفه "في يوم بؤسه" وهو يوم من اثنين جعلهما بن ماء السماء كل سنة، يوم نعيم يأمر لمن يراه فيه، بمئة من إبل الملوك، ويوم بؤس، يأمر لمن يراه فيه، أن يقتل.
وهذا ما حصل مع عبيد الذي لقي المنذر بن ماء السماء، في يوم البؤس المشؤوم هذا، فأمر بقتله بعدما خيّره بطريقة القتل، وطرح عليه عدة طرق لذلك، فاختار أن يسقيه خمراً حتى يذهب عقله فيفعل به ما يشاء، فسقاه الخمر ثم قتله.
وقصة قتله طويلة، ذكر فيها أيضا، بمفارقة تؤكد طبيعة الغموض والمفاجآت في سيرة هذا الشاعر، أن المنذر بن ماء السماء طلب منه أن ينشده قصيدته التي شغلت النقاد والمصنفين ويبدو أنها، أيضاً، كانت شغلت ملكاً مشهوراً كالمنذر، وهي القصيدة التي أوقعت أغلب من تناولها، بتناقض أو اضطراب، وهي التي أولها: "أقفر من أهله ملحوبُ..".